لن نخوض هنا في نوعية الأحزاب التي تحمل الهم و الفكر الإسلامي التركي الحديث بمختلف مسمياتها، لكننا سننظر إلى العقلية التي تأسست على القواعد المتينة، و المنهجيات المكينة لوضع تركية كمحرك أساسي في المنطقة و خارجها.
إن الذي استثارني لمتابعة هذا الملف هو حجم العقبات الهائلة في وجه التحرك الإسلامي، من طوفان العلمانية الجارف المدعوم بالجيش، في مقابل الحراك السلمي الإسلامي المؤثر و لكن بأسلحته المتطورة !
و هنا مكمن الفرس كما يقال . فأن تقوم حركة سلمية بنت دعائم نهضتها على خطط اقتصادية متمثلة في إنشاء (1100 شركة)، و تعليمية في إنشاء (800 مدرسة دينية)، و اجتماعية في إنشاء (550 صندوق تبرعات و 2500 جمعية خيرية)، و إعلامية في إنشاء (19 صحيفة، و110 مجلة ودورية، و 51 محطة إذاعية، و 20 محطة تلفزة)، ثم تثبت الإحصاءات كما يقول رئيس الأركان بالنص: "إن الإسلاميين ينفقون خمسة مليارات لاستمالة الفقراء، و خمسة مليارات لتمويل الصحف و التلفزة و نشر الدعوة، و الدعاية لمرشحيهم في الانتخابات، و خمسة مليارات للمنح الدراسية لمصر و ليبيا و السعودية و غيرها".
إن هذه الأرقام تعطي مؤشراً لكيفية اتجاه البوصلة العقلية (لأردوغان) الذي رفع رواتب الموظفين إلى (40%) و الجيش العلماني إلى (70%) !! في حين خفض ديون تركية إلى (40%) !!
إن الحركة الإسلامية الممتزجة بالروح الوطنية في عقلية أردوغان و رفاقه، هي التي جعلتهم (نمراً) يحدث التغيير الهائل، رغم بعض النقد الذي يمس كل البشر و المشروعات العملاقة.
و قد تكون آثار تلك الأرقام النوعية على المستوى الداخلي الذي جعل تركية من أكبر مصدري الناتج القومي للعالم و الذي فاق عدداً من الدول العربية و الإسلامية الكبرى بعدة أضعاف في فترة وجيزة شيئاً مذهلاً !
و يكفي أن نقرأ الخبر القصير في عنوانه و العميق في مضمونه الذي يقول: إن وزير الخارجية التركي دعا كل سفراء تركية في العالم لمدة عشرة أيام للإقامة في تركية لوضع خطة إستراتيجية لتمتين العلاقات مع كل الدول، ليكونوا الجزء الأساس في التحريك الداخلي، لا مجرد جهات استخباراتية، و موقعي معاملاتدورية !
إن تركية لم تخفِ وجهتها الإسلامية، و لا إرثها التاريخي البطولي، و لا انفتاحها المستنير الواعي، كما لم تلعب بورقة واحدة، و بعقلية واحدة !
و رجالات تركية اليوم من أبناء العمل السياسي الإسلامي لم يكونوا في موقعهم الحالي و هم يخططون على صفائح الدبابات، و لا برصد الدسائس و مسك الأوراق المتبادلة !
إنما هي العقلية التي تضع الهدف الواضح الأكبر، و تتعامل معه مرة بحسم، و مرة بمرونة، و مرة بحراك جماهيري، و مرة بلغة المصالح .
و (أردوغان) بطل المسلمين اليوم و المكرم في خدمة المسلمين في جائزة الملك فيصل، الذي يصول في القصر اليوم، هو نفسه الذي صدح عندما حكم عليه بالسجن: "سنواصل نضالنا الديمقراطي حتى النهاية، لن نطأطئ رؤوسنا أمام الاضطهاد ".
و لكن هذه الكلمات لم تكن صيحات و لا أناشيد و لا توزيع أدوار ولا تبادل لاتهامات مناصب الصقور و الأجنحة ! ، إنما منطق التأسيس التخطيطي، و العقلية المرنة، و التوغل الانفتاحي، و الاستمداد القيمي، و الكسب الشبابي، و الحلم الجماعي !
و هذا الحلم فقده أتراك أتاتورك (العلمانية) كما فقده جنرالات (الشيوعية) الروسية و التي تنبأ بسقوطها (محمد حسنين هيكل) عندما زارها، و قال للدكتور (عبدالوهاب المسيري) - رحمه الله - : إن روسيا الشيوعية ستتلاشى. فاستغرب المسيري من هذا التفاؤل رغم إيمانه بقوة الشيوعية، فرد هيكل باختصار : لم يعد هناك حلم يفكرون فيه !!
و الكسب الحضاري اليوم لأصحاب الحلم الذين يستيقظون بعده !! ( مقتبس )