أخوتي و أخواتي
السلام عليكم و رحمة الله و بركاته
هذه رسالة من القلب إلى القلب...رسالة لمن أحب...أرسلها للمحتاجين من أمثالي...فلعلها تكون سبباً لحياتهم و حياتي ...أكتبها لكم بحروفي و أملي أن تصل إلى قلوبكم...فإن وجدتم خلالها ما يذكر ...فلكم أن تنقلوها إلى كل منتدى او أي بريد ممن تعرفون...فربما تصل إلى إنسان قبل أن يودع الحياة فتكون له سبباً للحياة...و لعلها تصل إلى إنسان قد انغمس بالملذات فتكون سبباً للنجاة...مع العلم أن حقوق هذا الموضوع غير محفوظة فهو مفتوحة للجميع... مع أملي أخي أن لا تقف عند أول سطورها ...فأكملها فلعلها تكون تذكرة لمن يخشى...
لقد كنت في زيارة لمقبرة الرياض الأسابيع الماضية...لنودع أحد الأحباب ( رحمه الله تعالى )..فرأيت منظراً مؤثراً...رأيت مايقرب من التسع جنائز...و كل جنازة حولها مجموعة من أهلها و صحبها...و عليهم علامات الحزن واضحة..و تقاسيم الأسى ظاهرة ...و لكن هو القضاء الذي ليس عنه محيد ...و ليس منه مفر... قالى تعالى (7) قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (
سورة الجمعة
آه كم من مهموم في تلك المقبرة ممن لامست المنون أصحابهم...و كم من مكلوم أصيبوا بمصيبة فهزت أركانهم...و أحاطت بهم تلك الفاجعة فأوجعتهم...و رمتهم بسهمها فأبكتهم...
هناك على جرف ذلك القبر..يقف شاب قد غطى وجهه بشماغه... و أخذ يبكي بأعلى صوته...و هو واقف على قبر أهله...و منظره يقطع قلوب الناس من حوله...فيحاولوا أن يهدئوه..و أن يصبروه...و لكن هيهات هيهات لهم ذلك..فقد سكن الموت في أحد أحبابه...و فاجأهم بغير نذير ينذرهم فيخفف الكرب عليهم..
و في مكان آخر ...شاب قد بلغ أشده...قد أعياه الحزن فهده..فلم يستطع أن يقف على قدميه...فعضد له أقاربه حتى حملوه في سيارته...فأتوه الناس ليواسوه فيعودوا منه و قد اغرورقت عيونهم بالدموع ...و حاصرهم الحزن من كل جانب فصاروا هم بحاجة لمن يواسيهم...
و على قبر آخر...طفل صغير فجعته الدنيا بهذا المنظر... فجلس يبكي بداخل السيارة و رأسه مسند على الزجاجة...و عيناه تسيلان أساً و تقطران حزناً ...فهو صبي جديد على الدنيا...لم يذق إلا طعم السعادة منها...و اليوم يتذوق كأساً من أشد كؤوسها مرارة ...و أكثرها قساوة...إنه زائر الموت...قال تعالى (18) وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ (19) سورة ق
و آخر يستقبل المعزين بالميت...و قد تمالك نفسه...وعض على شفتيه حتى لا يبدي حزنه و لا ينهار أمام صحبه...و لكن تستعصيان عليه العينان فتذرفان حراً و وتسماً بحرارتهما على خده ألماً...و يتجرع في قلبه حزناً و كمداً...و وجهه متغير بظلمة من شدة كربه...إنه الموت هادم اللذات و مفرق الجماعات...
في تلك المقبرة لا تعلم من يعزي من ..و من يواسي من...الكل يحبس دموعاً في المقل...و الكل يحوقل و يترحم...و الكل يستغفر و بذكر الله يتمتم...الكل منكسر...إنه زائر الموت...الذي يثني أكثر الناس شدة...و يلين أشد القلوب قسوة..و يحني أكثر الأجسام جبروت و عظمة...
أتيت القبور فساءلتهـا *** أيـن المعظـم والمحتقـر ؟
وأين المذل بسلطانه *** وأين القوي علـى مـا قـدر؟
تفانوا جميعاً فما مخبر *** وماتوا جميعاً ومات الخيـر
فيا سائلي عن أناس مضوا *** أما لك فيما مضى معتبر؟
تروح وتغدو بنات الثرى *** فتمحو محاسن تلك الصور
إنه الموت الذي يعصف بالنفوس ...فلا يفرق بين ملك أو مملوك...و لا صغير أو كبير...أو أنثى أو ذكر..إنه الموت..انتزع الطفل الصغير من ثدي أمه...و انتزع الطفل السعيد من حضن أبيه
إنه الموت الذي لم يمهل العصاة المتكبرين المتجبرين من أن يتوبوا...إنه الموت الذي لم يمهل الصالحين الطائعين أن يستزيدوا....
إنه الموت يمر على السقيم و الصحيح...و يختار المرافق قبل المريض...و يطوي البعيد عن القريب...إنه الموت...فكفى به واعظاً
هي سويعات ..فوجدت المقبرة من تلك الأمم خالية...و لم أجد شيئاً من المظاهر السابقة...القبور و قد وضعت عليها النصائب...و غطيت بالتراب و رشت بالماء لكي يثبت رملها...و بقايا من طين كان أعد لأحد الأموات فزاد عن الحاجة...فأكتفي ببعضه...دفنت أجساد تحت الأرض...و سعت أجساد فوق ارض ...أعتبر أناس ...و مرت هذه اللحظات على أناس...و اقتربت الشمس للمغيب...و خرجت من المقبرة...
فعلمت أن الدنيا و إن طالت فهي قصيرة...و إن أقبلت فهي لابد يوماً مدبرة...و إن أورقت فهي إلى قريب ساقطة..و إن أينعت فهي لابد يوماً زائلة...و إن أزهرت فمردها أنها ذابلة...و يذهب كل شيء و يبقى شيئاً واحداً هي ثمرة أعمالنا الصالحة...لقد عادت بي ذاكرتي إلى حديث ذلك المؤذن الذي بلغ من العمر الثمانون..و يقول لقد أذنت لمدة أربعين سنة...فمرت كأنها يوم واحد...فإذا كانت الحياة سوف تمضي بهذه السرعة ...و العمر سوف ينقضي بغمضة عين...فلماذا التقصير...و لماذا التأجيل...و لماذا التسويف...و لماذا ندع الركب يرتحل ...و أهل الخير يركبون و نحن واقفون...و نخسر بقية الحياتين الطويلتين الدائمتين ( حياة البرزخ و حياة الآخرة )...شيع الحسن جنازة فجلس على شفير القبر فقال : «إن أمراً هذا آخره لحقيق أن يزهد في أوله ، وإن أمراً هذا أوله لحقيق أن يخاف آخره...
فإنك ما تدري إذا كنت مصبحــاً *** بأحسن ما ترجو لعلك لا تمســي
فلاش وعظي
و تساءلت في نفسي بعد ذلك كثيراً ؟!
لماذا لا نسعى لحياتنا الباقية ؟
إن الحياة قصيرة و أيامها معدودة...و منغصاتها كثيرة...و آهاتها عظيمة...و مصائبها جليلة...و رغم ذلك نسعى لخطبة هذه الحياة الفانية ...فنقدم لها مهراً ثميناً من حياتنا الباقية...إن الخلق يعيشون ثلاث مراحل من الحياة...الحياة الدنيا ...و حياة البرزخ ...و حياة الآخرة...فالحياة الدنيا هي أيام معدودة ...لا يعلم المرء متى انقضاؤها...و لا يدري متى نهايتها...و لا يعلم متى يرحل منها...و الرسول صلى الله عليه و سلم....يقول إن أعمار أمتي بين الستون إلى السبعون...فهي حياة قصيرة على المقصر و المجتهد...فالمقصر سوف يندم إن لم يتب و يستقيم...و المجتهد يندم إذ لم يستزيد....فغداً يحين الندم..عندما يحضر ملك الموت...و عندما نُحمل على الأكتاف...و يعلم هل كنا على خير أم لا قال تعالى (184) كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ (185)سورة آل عمران
عن هانئ مولى عثمان قال: كان عثمان رضي الله عنه إذا وقف على قبر بكى حتى يبل لحيته، فقيل له: تذكر الجنة والنار فلا تبكي ، وتبكي من هذا؟ فقال : إن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: «القبر أول منازل الآخرة، فإن ينج منه فما بعده أيسر منه، وإن لم ينج منه فما بعده أشد منه» ثم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «ما رأيت منظراً إلا والقبر أفظع منه»
فهل نحن بمأمن من زائر الموت... ؟
بيت ترفرف السعادة في أطرافه...
فيعتقد أهله أن الأفراح سكنت معهم
و أن السعادة سوف تستمر بالتغرير بينهم...
وأن السرور قد نزل بدارهم...
وفجأة وبدون مقدمات ينتزع ملك الموت روحاً من أرواحهم...
فتتحول السعادة إلى تعاسة ...و يحزن الجميع...و لكن هو القضاء الذي لا مفر منه...
أم بين أطفالها تُضاحكُ هذا و تنظر إلى حاجة هذا...
و تبتسم لسعادة هذا و تبكي لحزن ذاك...
و فجأة ينتزعها الموت من بينهم...
فيفقد الأطفال عطف أم روؤم و لطف أم حنون...
فيخلعون ثوب السعادة ويلبسون ثوب الحزن أبد الدهر...
فيبكون لفقدها...و يتحسرون لغيابها...و لكن هو الموت الذي لا مهرب عنه .
و أبٌ بين أبنائه يداعبهم تارة ...و يسعى في قوتهم تارة...
فيحل يومه ...وبلا ميعاد...و يدخل عليهم بلا موعد..
و يصبحوا في يوم و ليلة ...أيتام يتصدق الناس عليهم...
فينزل الضيق عليها...و يحيط الهم و الكرب بهم...
و ليس لهم إلا الرضا بالقضاء...إنه هادم اللذات ومفرق الجماعات...
و أخ بين أخوته...
هو أنيسهم ...و رفيقهم...
فينزل القضاء فينزعه من بينهم...
فيفقدوا الأنس و السعادة برحيله ...
فيبحثوا عن بقايا من بسماته...و شيئاً من مداعبته...
و لا يجدوا إلا بعض بقايا من أغراضه التي خلفها بعد وفاته...فإنا لله و إنا إليه راجعون...
قال الحسن: ( إن هذا الموت قد أفسد على أهل النعيم نعيمهم، فالتمسوا عشياً لا موت فيه)
و نائم ينتظر صباحه...
فيمسي بعداد الأحياء...
و يصبح بعداد الأموات...
فيمسي بين صحبه...
و يصبح في وسط لحده...
و كم من بعيد أمل أن يعود لحبيبه...
فطواه الموت قبل أن تكتحل عينه بلقيا حبيبه....
فانقطع الأمل بالتلاقي في الحياة...
بعد أن أصبح في عداد الأموات...
قال التميمي: ( شيئان قطعا عني لذة الدنيا: ذكر الموت، وذكر الموقف بين يدي الله تعالى )
أخي العزيز...
إن الملك الموكل بقبض الأرواح ينتظر من يحل يومه...فمن ياترى تحمل القائمة ؟
و هل يومي الآن ...أو بعد لحظات... أو بعد حين ..العلم عند رب العالمين
نسأل الله حسن الخاتمة...و أن يمد بالأعمار على طاعة
إن اللبيب هو الذي لا يهمه متى موعد موته...بل هو بشغل دائم بالتزود من موارد الخير...و سُلوك طريق المتقين ..فأمن النهاية ...و لا تخيفة متى تكون ومتى تحين تلك النهاية...
تزود من التقوى فإنك لا تدري *** إذا جن ليل هل تعيش إلـى الفجـر
فكم من صحيح مات من غير علة *** وكم من سقيم عاش حينا من الدهر
وكم من صبي يرتجى طول عمره *** وقد نسجت أكفانه وهو لا يـدري
أخي الحبيب...
إن للموت لسكرات...
تذكر أشد كربات الدنيا ...فالسكرات منها أشد...
تذكر أشد مصائب الدنيا فالسكرات منها أعظم...
تذكر أشد الضيق الذي يحل بالمرء فالسكرات منها أعلى...
كفى به ألماً أنه آلم الحبيب المصطفى صلى الله عليه و سلم و هو الصابر المحتسب فقد روت عائشة رضي الله عنها و قالت : ( إن رسول الله كان بين يديه ركوة أو علبة فيها ماء فجعل يدخل يديه في الماء فيمسح بها وجهه ويقول : لا إله إلا الله إن للموت سكرات , ثم نصب يده فجعل يقول : في الرفيق الأعلى حتى قبض ومالت يده )رواه البخاري
يال قلبي.. و بأبي أنت و أمي يارسول الله...فقد آلمتك السكرات...
ويال حزني و أنت أفضل الخلق ...لقد حرتك لحظات الممات...
إذا كنت أنت الحبيب المصطفى قد أعيتك السكرات... فكيف بمثلنا من المقصرين الضعفاء ؟!... فاللهم نسألك العون ... فإنه لا مهرب منه ...و لا ملاذ عن كرباته إلا بعونك ياربنا قال تعالى (أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ ) فاللهم رحمتك بنا عندما يشتد بنا و يشتد... و اللهم لطفك بنا عندما ينتزع انتزاعاً من أطراف أجسامنا حتى يصل التراقي ...فلا ينفع طبيب أو راق قال تعالى : (25) كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ (26) وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ (27) وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ (28) وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ (29) إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ (30) ) القيامة
فنسألك حسن الخاتمة...
و أن تجمل النهاية...
فإنها عندما نبلغ النهاية ..تقفل أبواب قبول الأعمال.. و يصير المرء مرهوناً بما كسبت يمينه..قال تعالى (82) فَلَوْلا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ (83) وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ (84) وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لا تُبْصِرُونَ (85) الواقعة
فياليت شعري ماذا يتمنى المرء في موقفه هذا...
و ليت شعري فهل يتمنى مسرف على نفسه أنه وقع في شراك معصيته...
قال تعالى : وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ ) سورة الأنعام
و هل يتمنى مفرط أن فرط في جنب الله...
و هل يتمنى مقصر على تقصيره...
فهناك تحين ساعة الندم و لات ساعة مندم...
قال تعالى (كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ ) سورة الأنبياء
روي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال في خطبته : يا عباد الله : الموت الموت ، فليس منه فوت، إن أقمتم له أخذكم، وإن فررتم منه أدرككم، الموت معقود بنواصيكم ، فالنجاة النجاة ، الوحا الوحا ، فإن وراءكم طالبا حثيثا وهو القبر ، ألا وإن القبر روضة من رياض الجنة، أو حفرة من حفر النيران، ألا وإنه يتكلم في كل يوم ثلاث مرات فيقول : أنا بيت الظلمة .. أنا بيت الوحشة .. أنا بيت الديدان ألا وإن وراء ذلك اليوم يوما أشد من ذلك اليوم ، يوما يشيب فيه الصغير ، ويسكر فيه الكبير قال تعالى ( وترى الناس سكرى وما هم بسكرى ولكن عذاب الله شديد)
وقال الدقاق: ( من أكثر من ذكر الموت أكرم بثلاثة أشياء: تعجيل التوبة، وقناعة القلب، ونشاط العبادة، من نسي الموت عوقب بثلاثة أشياء: تسويف التوبة، وترك الرضى بالكفاف، والتكاسل في العبادة )
و هل الموت هو النهاية ؟!
إن لحظات الموت عصيبة و ما بعدها إما حياة سعيدة أو حياة تعيسة
فهل انجلت الهموم...في مثل ذلك اليوم العصيب..
لا... ليس بعد...بل لقد بدأت حياة جديدة هي حياة البرزخ ...حياة القبر ..
فهناك حين يوضع المرء في القبر...
حيث الظلمة ...و الضيق...
حيث يتوسد الجسم الأرض...
و يجاور الدود...
و يوضع في وسط لحدة في ملابس بسيطة...
فلا أنيس إلا عمله...
و لا نور إلا نوراً اكتسبه في حياته..
و لا سرور إلا لمن عمل لآخرته...
فعندما يوضع الميت في قبره...
و ينصرف عنه أهله و أصحابه و مشيعيه...
و يبقى وحيداً لوحدة...
فإن المرء يكون بهذا الحال ...
فعن البراء رضي الله عنه قال : خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في جنازة رجل من الأنصار فانتهينا إلى القبر ولما يلحد فجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم وجلسنا حوله كأنما على رؤوسنا الطير وفي يده عود ينكت به فرفع رأسه فقال : استعيذوا بالله من عذاب القبر ، ثلاث مرات ، - أو مرتين - ثم قال : إن العبد المؤمن إذا كان في انقطاع من الدنيا و إقبال من الآخرة نزل إليه من السماء ملائكة بيض الوجوه كأن وجوههم الشمس حتى يجلسون منه مد البصر معهم كفن من أكفان الجنة وحنوط من حنوط الجنة يجيء ملك الموت فيقعد عند رأسه فيقول أيتها النفس الطيبة اخرجي إلى مغفرة من الله ورضوان فتخرج تسيل كما تسيل القطرة من في السقاء فإذا أخذوها لم يدعوها في يده طرفة عين حتى يأخذوها فيجعلوها في ذلك الكفن وذلك الحنوط فيخرج منها كأطيب نفحة مسك وجدت على وجه الأرض فيصعدون فلا يمرون بها على ملأ من الملائكة إلا قالوا : ما هذا الروح الطيب ؟ فيقولون: هذا فلان بن فلان بأحسن أسمائه التي كان يسمى بها في الدنيا حتى ينتهي بها إلى السماء الدنيا فيستفتح فيفتح لهم فيستقبله من كل سماء مقربوها إلى السماء التي تليها حتى ينتهي به إلى السماء السابعة ، قال : فيقول الله : اكتبوا كتاب عبدي في عليين في السماء السابعة وأعيدوه إلى الأرض فإني منها خلقتهم وفيها أعيدهم ومنها أخرجهم تارة أخرى فتعاد روحه في جسده ويأتيه ملكان فيُجلسانه فيقولان له : من ربك ؟ فيقول : ربي الله ، فيقولان له : ما دينك ؟ فيقول : ديني الإسلام فيقولان له : ما هذا الرجل الذي بعث فيكم ؟ فيقول : هو رسول الله صلى الله عليه وسلم . فيقولان : ما عملك ؟ فيقول : قرأت كتاب الله وآمنت به وصدقت به فينادي مناد من السماء أن صدق عبدي فأفرشوه من الجنة وألبسوه من الجنة وافتحوا له بابا إلى الجنة فيأتيه من طيبها وروحها ويفسح له في قبره مد بصره ويأتيه رجل حسن الوجه حسن الثياب طيب الريح فيقول : أبشر بالذي يسرك هذا يومك الذي كنت توعد ، فيقول : ومن أنت ؟ فوجهك الوجه الذي يجيء بالخير فيقول : أنا عملك الصالح ، فيقول: رب أقم الساعة حتى أرجع إلى أهلي ومالي . وإن العبد الكافر إذا كان في انقطاع من الدنيا وإقبال من الآخرة نزل إليه من السماء ملائكة سود الوجوه معهم المسوح حتى يجلسون منه مد البصر ثم قال : ثم يجيء ملك الموت حتى يجلس عند رأسه فيقول : يا أيتها النفس الخبيثة اخرجي إلى سخط الله وغضبه قال : فتفرق في جسده ، قال : فتخرج فينقطع معها العروق والعصب كما تنزع السفود من الصوف المبلول فيأخذها فإذا أخذها لم يدعوها في يده طرفة عين حتى يأخذوها فيجعلوها في تلك المُسوح فيخرج منها كأنتن ريح جيفة وجدت على ظهر الأرض فيصعدون بها فلا يمرون بها على ملأ من الملائكة إلا قالوا : ما هذا الروح الخبيث ؟ فيقولون : فلان بن فلان بأقبح أسمائه التي كان يسمى بها في الدنيا حتى ينتهي به إلى سماء الدنيا فيستفتحون فلا يفتح له ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم : { لا تفتح لهم أبواب السماء ولا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط } ( الأعراف / 40 ) ، قال : فيقول الله عز وجل : اكتبوا كتاب عبدي في سجين في الأرض السفلى وأعيدوه إلى الأرض فإني منها خلقتهم وفيها أعيدهم ومنها أخرجهم تارة أخرى فتطرح روحه طرحا وقال ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم : { ومن يشرك بالله فكأنما خر من السماء فتخطفه الطير أو تهوي به الريح في مكان سحيق } ( الحج / 31 ) ، قال : فيعاد روحه في جسده ويأتيه الملكان فيجلسانه فيقولان له : من ربك ؟ فيقول : هاه هاه لا أدري ، فيقولان له : وما دينك ؟ فيقول : هاه هاه لا أدري ، قال : فينادي مناد من السماء أفرشوا له من النار وألبسوه من النار وافتحوا له بابا إلى النار . قال : فيأتيه من حرها وسمومها ويضيق عليه قبره حتى تختلف عليه أضلاعه ويأتيه رجل قبيح الوجه قبيح الثياب منتن الريح فيقول : أبشر بالذي يسوؤك هذا يومك الذي كنت توعد ، فيقول : من أنت ؟ فوجهك الوجه الذي يجيء بالشر ، فيقول : أنا عملك الخبيث ، فيقول : رب لا تقم الساعة رب لا تقم الساعة ".
و عن أنس رضي الله عنه قال : قال نبي الله صلى الله عليه وسلم « إن العبد إذا وضع في قبره ، وتولى عنه أصحابه، إنه ليسمع قرع نعالهم قال: يأتيه ملكان فيقعدانه فيقولان له : ما كنت تقول في هذا الرجل ؟ قال : فأما المؤمن فيقول : أشهد أنه عبد الله ورسوله قال : فيقال له : انظر إلى مقعدك من النار، قد أبدلك الله به مقعداً من الجنة قال نبي الله صلى الله عليه وسلم فبراهما جميعاً » وأما المنافق والكافر فيقال له : ما كنت تقول في هذا الرحل ؟ فيقول: لا أدري ، كنت أقول ما يقول الناس فيقال: لا دريت ولا تليت، ويضرب بمطارق من حديد ضربة ، فيصيح صيحة يسمعها من يليه غير الثقيلين» متفق عليه
حال السلف والخوف من تلك اللحظات
فلقد كان السلف يستعدون لمثل هذا اليوم
و يتصورون حالهم...
و يمثلون لمآلهم...
و يستعدون لمنزلهم...
فكان الربيع بن خثيم يتجهز لتلك الليلة، ويروى أنه حفر في بيته حفرة فكان إذا وجد في قلبه قسوة دخل فيها، وكان يمثل نفسه أنه قد مات وندم وسأل الرجعة فيقول : ( رب ارجعون لعلي أعمل صلحا فيما تركت ) ثم يجيب نفسه فيقول : قد رجعت يا ربيع !! فيرى فيه ذلك أياماً ، أي يرى فيه العبادة والاجتهاد والخوف الوجل
وهذا عمر بن عبدالعزيز وعظ يوماً أصحابه فكان من كلامه أنه قال :«إذا مررت بهم فنادهم إن كنت منادياً ، وادعهم إن كنت داعياً، ومر بعسكرهم، وانظر إلى تقارب منازلهم .. سل غنيهم ما بقي من غناه؟ .. واسألهم عن الألسن التي كانوا بها يتكلمون، وعن الأعين التي كانوا للذات بها ينظرون .. واسألهم عن الجلود الرقيقة ، والوجوه الحسنة، والأجساد الناعمة، ما صنع بها الديدان تحت الأكفان؟! .. أكلت الألسن، وغفرت الوجوه، ومحيت المحاسن، وكسرت الفقار، وبانت الأعضاء ، ومزقت الأشلاء فأين حجابهم وقبابهم؟ وأين خدمهم وعبيدهم؟ وجمعهم وكنوزهم؟ أليسوا في منازل الخلوات؟ أليس الليل والنهار عليهم سواء ؟ أليسوا
في مدلهمة ظلماء؟ قد حيل بينهم وبين العمل، وفارقوا الأحبة والمال والأهل فيا ساكن القبر غداً ! ما الذي غرك من الدنيا؟ أين دارك الفيحاء ونهرك المطرد؟ وأين ثمارك اليانعة؟ وأين رقاق ثيابك؟وأين طيبك بخورك؟ وأين كسوتك لصيفك وشتائك؟ .. ليت شعري بأي خديك بدأ البلى .. يا مجاور الهلكات صرت في محلة الموت .. ليت شعري ما الذي يلقاني به ملك الموت عند خروجي من الدنيا ..وما يأتيني به من رسالة ربي
.. ثم انصرف رحمة الله فما عاش بعد ذلك إلا جمعة
وكان يزيد الرقاشي يقول لنفسه : «ويحك يا يزيد ! من ذا يصلي عنك بعد الموت ؟ من ذا يصوم عنك بعد الموت؟ من ذا يترضى عنك بعد الموت؟ ثم يقول : أيها الناس ألا تبكون وتنوحون على أنفسكم باقي حياتكم .. من الموت موعده .. والقبر بيته .. والثرى فراشه .. والدود أنيسه .. وهو مع هذا ينتظر الفزع الأكبر .. كيف يكون حاله ؟! ثم بكي رحمه الله قال تعالى ( حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ
لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ )
أما الأمام ابن القيم رحمه الله تعالى فقد قال الله بعد أن ذكر أنواع كثيرة من المحرمات التي يعذب بها الموتى في قبورهم : « وما كان أكثر الناس كذلك، كان أكثر أهل القبور معذبين، والفائز منهم قليل، فظواهر القبور تراب ، وبواطنها حسرات وعذاب ظواهرها بالتراب والحجارة المنقوشة مبنيات، وفي باطنها الدواهي والبليات، تغلي بالحسرات كما تغلي القدور بما فيها، ويحق لها وقد حيل بينها وبين أمانيها. تالله لقدت وعظت لواعظ مقالا ، ونادت : يا عمار الدنيا لقد عمرتم دارا موشكة بكم زوالا ، وخربتم دارا انتم مسرعون إليها انتقالا هذه دار الاستيفاء، ومستودع الأعمال ، وبذر الزرع ، وهي محل للعبر، رياض من رياض الجنة ، أو حفر من حفر النيران لا دار للمرء بعد الموت يسكنها إلا التي كان قبل الموت يبنيها فإن بناها بخير
طـاب مسكـنـه وإن بنـاهـا بـشـر خــاب بانيـهـا
أموالنا لذوي الميراث نجمعها ودورنا لخراب الموت نبنيهـا
فاعمل لدار غداً رضوان خازنها الجار أحمد والرحمن بانيها
قصورها ذهب والمسك طينتها والزعفران حشيش نابت فيها
في الختام....
أخي الحبيب...
يامن قصرت في جنب الله...
إن كان الشيطان قادك للشرك...
و الهوى أخذك بعيداً عن العقيدة الحقة..
و الشبهات قذفتك في شبهات الطريق...
و الشهوات رمتك في مزالق الحياة...
فمتى التوبة ؟...
ومتى العودة ؟!..
ومتى الإنابة ؟!..
ومتى الرجوع ؟!
فكر أخي قبل الرحيل...
و عد قبل أن تطوى الصحف
و أرجع قبل أن تبلغ الروح الحلقوم..
يا من فرط بالأركان...فخالف مقتضيات لا إله إلا الله ...و ضيع الصلاة ...و فرط في الزكاة ...و تساهل في الصوم ...و أخر الحج...فمتى العودة...وكيف تتوقع أن يكون جزاء ممن فرط في أعظم شيء في هذا الدين و هي الأركان...وهل تتمنى أن تكون بحال المضيع في قبرك و أنت لوحدك...ومرهون بعملك...
يامن تساهل بالمعاصي...و أرتكب الكبائر...وغابت عن عينية النواهي...و طرق كل باب من أبواب العصيان...فماذا تنتظر ...وماذا تتوقع في القبر...يامن أطلق لنفسه العنان و أرخى لعينه النظر...و أتبع النظرة النظرة حتى كانت الحسرة...فهل تتمنى أنك وقعت في تلك الجريمة...
فما لك ليس يعمل فيك وعظ *** ولا زجر كأنك من جماد
ستندم إن رحلت بغير زاد *** وتشقى إذ يناديك المنـادي
فلا تأمن لذي الدنيا صلاحا *** فإن صلاحها عين الفساد
ولا تفرح بمال تقتنيه *** فإنـك فيـه معكـوس المـراد
وتب مما جنيت وأنت حس *** وكن متنبها قبـل الرقـاد
أترضى أن تكون رفيق قوم *** لهم زاد وأنت بغير زاد؟
يامن أعطاه الله اللسان للذكر...و وهبه للشكر...فاستبدل النعم بالكفر...و جعل ماخلق للخير في سبيل الغي و الشر...فاستخدم اللسان للزور و الكذب و الفجور... و الغيبة و النميمة و الفحش و سوء القول...فهل تتمنى أنها كتبت عليك تلك الكلمات...أو أن سجلت في صحائفك تلك الكبائر أو الصغائر...وهل تسعد بها في ظلمة القبر...
و أنتِ يامن قصرت بحق ربها…واتبعت هواها فأظلها…يامن تجاهلت ذنب الكاسيات العاريات وأخذت بفتنة الناس…يامن نزعت حجابها وهتكت مع ربها حياءها…ويامن تشبهت و الكافرات قلدت…يامن عصت زوجها و خالفت وصية رسولها…يامن تنمصت و تكشفت فهل يسرك أن تقفي في قبرك و أعمالك هذه ….
أما من ولاه الله رعية فضيعها...فهل يسرك فعلك بعد مماتك...وهل تنتظر و أنت في قبرك أن تزداد حسناتك...و الرسول صلى الله عليه وسلم ذكر أو ولد صالح يدعو له...فأين الولد الصالح إذ لم تقم ببيتك خير قيام...و أين الولد الصالح إذ لم تعطه الاهتمام...وأين الرجاء إذا أنقطع العمل...
و أنت يامن ظلمت … وبدأت بظلم نفسك قبل غيرك..ألا رعيت الله في من حولك...إن كنت ولداً عاقاً فقد ظلمت نفسك وخالفت أمر ربك...و حل عليك غضب والديك...و كبلت نفسك بما لا تطيق...
و إن كنت زوجاً ...فاستغليت قوتك...و بسطتك...و ظلمت زوجتك...فماذا عساك أن تقابل ربك...فظلم القوي البعيد ممقوت...فكيف بظلم القريب الضعيف...وظلم الرجال منكر تستوحش منه النفوس...فكيف بظلم النساء ...فهل من عودة ومراجعة للنفس و تقرب وتوبة...و عودة وأوبة ...قبل أن تقع في تلك الحفرة حيث لا فسحة و لا رجعة...
و يامن اتبع خطوات الشيطان..فاستخدم ما أنعم الله به على الإنسان أسوء استخدام...فتعدى على المحرمات...و نشر البلاء...و هتك الأستار...و غر الحرائر...فهو كل يوم في نادي إما بنشر الرذيلة عبر الجوالات أو الإنترنت ...أو بالاتصالات و المعاكسات... أو بالجرائد و المجلات...فهو يجلب برجله وخيله على الغافلات المؤمنات...و يحاول بالصغيرات الجاهلات...فينشر سمومه ...و يبث عبر وسائل الاتصال الحديثة شروره...فهل ندمت قبل أن لا تنفع ساعة الندم...وهل علمت أن الشرور المنشورة عبر الأعلام هي من أشر الشرور...فهي باقية يتناقلها الناس إلى أن يشاء الله...وهل يسعدك أن يزداد رصيدك من السيئات و أنت مع الأموات ...في مقبرة خالية و في حفرة مظلمة...و هل غرك طول الأمل...وبدأت تسوف حتى يصلك هادم اللذات...فإلى متى ؟....ومتى الرجوع ؟
والسلام عليكم ورحمة الله و بركاته
مع تذكيري بنشرها إن رأيتم أن فيها تذكرة ....فلعل الله أن ينفع بها و يوقظ بها قلوباً غافلة...
رابط فلاش فرشي التراب
ملاحظة: جميع الصور من النت وتم إضافة الآيات و الأحاديث و أبيات الشعر المناسبة لها وعمل بعض التنسيق من كاتب الموضوع...فجزا الله كل من كان له أثر في هذا الموضوع ...و كتب الله لهم الأجر .....أبوفارس